إمارة المؤمنين، القراءة القانونية

بعض الجوانب القانونية الخاصة بمؤسسة البيعة

البيعة مكون أساسي في القانون المغربي العام، ماضيا وحاضرا. فهي ذات إطار مرجعي في الفقه الإسلامي وما واكبه من فكر، ولها ممارسات مغربا ومشرقا، ولكنها تعاصر اليوم طروحات ناجمة عن الفكر القانوني الأوروبي. فطرحها في سياق منهجي مزدوج يجعلها مرتبطة بمفهومين مختلفين، الأمر الذي يتطلب شرح مفهومها من هذا المنطلق الجديد، ولكونها ترتبط بشكل جوهري بمشروعية الحكم وممارسته، فإنها خاضعة بالدرجة الأولى لاعتبارات سياسية، لذا يتعين إبراز الآثار المترتبة عنها منذ وضع أول دستور مغربي عام 1962 ‏،سواء بالنسبة للفقه أو بالنسبة للقانون المغربي الكلاسيكي أو بالنسبة للقانون العام المغربي. فمن ناحية المفاهيم نجد استعمال مصطلحات مثل خلافة وسلطنة وملكية ‏وإمارة المؤمنين، بعضها اندثر وبعضها ما يزال مستعملا.

 فتعريف ابن خلدون للبيعة على أنها عهد على الطاعة أكيد على الإنسان معرفته لما يلزمه من حق صاحبها ، السلطان أو الإمام، تعريف يتيح لنا معرفة خصائصها ، فيتبين أن التمييز ببن سلطة روحية وأخرى دنيوية تمييز غربي الأصل، لأن ‏السلطان يمثلهما معا:

فهو خليفة الله في الأرض وهو القائم على القواعد الشرعية، ومن بين ما يترتب على مهمته عدم السماح بتغيير أركان الدين، والعلماء يعينونه على التأويل: ‏.لا يمارس الحكم إلا بعد قبول البيعة التي سيستمد منها سلطته ويعتزم بها

 فالتفويض الذي يتلقاه السلطان في نظر الماوردي، بمقتضي البيعة، تفويض يخضع لشروط ويجعل سلطة المبايع معيارية وسلطة وزرائه (حكومته) تابعة في مرتبة أسفل لا يترتب عنها تفويض شخصي.

 فالبيعات بالمغرب كان يحررها علماء فاس، وتعتبر بيعتهم "بيعة كبرى"، بينما يحرر العدول والقضاة في جهات أخرى، مدن وقبائل، بيعات صغرى.

فالبيعة من خلال هذا التوضيح تقيد حكم المبايع ولا تترك سلطته غير محدودة، إذ هو ملزم بمقتضاها بالمحافظة على المصالح العليا للجماعة . وتعتبر بيعة فاس للسلطان مولاي حفيظ في بداية القرن العشرين شبيهة بما يسمى "ميثاق الحقوق السياسية" ‏ بالمفهوم الغربي.

 فالماوردي يضع فصولا لما يشبه دستورا من عشرة عناوين تشبه ما نجده في الدساتير الحديثة، من قبيل المبادئ الأساسية في الديباجة وحقوق المجتمع وواجباته والقانون والحرية وتوزيع السلط والتعاون، إلخ.

 فطبيعة البيعة في الفقه المغربي تجعلها ذات طابع إلزامي بين طرفين هما السلطان والجماعة، ولذلك فصفتها القانونية ليست سوى مسألة شكلية ترتبط بجوهر الحكم من منظور الدين.

نجد نموذجا لمجادلة مذهبية في تاريخ المغرب بين فقيهين هما : يحيى الحاحي وعيسى السكتاني بخصوص عقد بيعة السلطان السعدي مولاي زيدان.

فبعد وفاة المنصور، والد زيدان، طلب السكتاني من الحاحي الانضمام لبيعة هذا الأخير، إلا أنه رفض، فهو كان يصر على تبيان شروط البيعة، أما السكتاني فكان يدافع عن اللامشروطية، لأن المهم في نظره هو قيام سلطان وتجنب الفتنة والمحافظة على ما يسمى اليوم بـ"النظام العام"، لأن العلماء في نظره إنما عليهم القيام بواجب النصح للسلطان. فبالنسبة للخلع لا يرى السكتاني أنه وارد ما دامت البيعة لم تخضع لشرط في البداية، فهي إذن ذات صبغة مطلقة.

إن كون البلدان الإسلامية لم تعرف تطورا في اتجاه دساتير مكتوبة، على النمط الغربي، قد يفسره كون بيعة حاكم جديد تشكل في حد ذاتها قطيعة وتجديداً دستورياً. وكأننا في تطور دوري خلدوني بدل تطور الخط الأوروبي الذي نشأت عنه الدولة في العصر الوسيط. أما تاريخ المغرب فقد خضع لاستمرارية متواصلة عبر تاريخ الأسر الحاكمة،وهذا ما أعطى البيعة بعدها الأساسي المتمثل في الارتباط بين السلطة السياسية الدينية والأمة. وتنعكس هذه الاستمرارية في ثلاثة مكونات:

‏-استمرارية في المقومات الدينية العقدية والمذهبية التي وحدت الأمة بدل الانتماء العرقي:

‏- استمرار نمط الحكم الملكي لإدارة البلاد:

‏- وعي تكون لدى السكان بالانتماء إلى نفس الجماعة في مجال ترابي معين.

‏إن هذه  المكونات هي التي عكسها الدستور الحديث في شعاره: الله، الوطن، الملك. فمنها قدسية الدولة التي يحرص كل نظام على عدم انتهاكها .

 عندما تعقد البيعة لمعهود له من قبل والده، فإنها تأتي لتكرس واقعا يعزز استمرارية الدولة ويضمن استقرارها ، فالعقد في نفس الوقت تكريس للشرعية من خلال المطابقة مع الدستور.

 وللبيعة في المغرب خصائص منها:

 ‏. أنها عقد مكتوب ومشهود عليه، وقد يختم بتوقيعات أعيان ينوبون عن المبايعين; ‏. أن البيعة ذات قيمة رمزية كبرى تجعلها مصحوبة بالإشهار ومقترنة بالاعتقاد في بركة العهد الجديد المترتب عنها; ‏. أن البيعة تعطي مكانة خاصة للعلماء، وان كان المبايعون يشملون فئات أخرى كالتجار وكبار الجيش وممثلي ‏الحرف . وترجع المكانة الخاصة للعلماء إلى معرفتهم بالشروط التي تقتضيها البيعة والى حرصهم على تجنب الفتنة ; ‏. أن البيعة كانت دائمأ في المغرب عقدا ملزمأ للطرفين؟ فبالرغم من أنها تتعلق ب "القانون السياسي"، فإن قواعد القانون المدني والعقود هي التي تنطبق عليها بالدرجة الأولى، فالمبايعة في معنى المعاملة والمداينة. فالطاعة تلزم مقابل إنجاز مجموعة أهداف تتعلق بالصالح العام  في مستوياته المادية والروحية.

 ومن المفيد للمحلل السياسي أن يعمق النظر في الكيفية التي استمرت بها البيعة حتى وجدت مكانها دون تناقض في الإطار المفاهيمي المنقول عن النظام الدستوري المعاصر. يمكن تتبع نموذج لتفعيل البيعة من خلال وقائع تولي كل من صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني عام1961 ‏ وتولي صاحب الجلالة الملك محمد السادس عام 1999 ‏. فكلاهما بويع كملك وكإمام أعظم، أي كأمير للمؤمنين، وان كان قد وقع العهد لكل منهما في حياة والده. فالذي حدث هو أن الدساتير المختلفة المتوالية قد أدخلت التفصيل على ما كان متضمنا من شرط البيعة على وجه الإجمال، لذلك لم يقع أي تناقض بين البيعة وبين الدستور، يضاف إلى ذلك أن الملك المبايع يحتفظ من خلال الدستور بسلطات تضمن له الوفاء بجوهر ‏ما يلتزم به من خلال البيعة.

 ‏فإذا كنا لا نجد للبيعة ذكراً في نص أحكام الدستور، فذلك لأنها كانت سابقة منطقيا، على الرغم من كون الدستور ‏الأداة المتحكمة في تنظيم السلط ضمن الدولة والمنظمة لسير المجتمع .

 و في صلة بالموضوع، فان البيعة هي أساس شرعية الملك الذي يمتلك حق منح الدستور أو مراجعته. فوظيفية البيعة يجب أن " تقرأ " في ثنايا أحكام الدستور سواء بكيف ضمنية أو صريحة، كلما تعلق الأمر على الخصوص بأبعاد سلطات الملك من خلال الصلاحيات الخاصة الممنوحة له، ومن ‏خلال ضمانه للحقوق والحريات، وكل الأبعاد الأخرى التي يتطلبها تسيير النظام المعياري في مجمله.

 ‏فحسب النظرية الكلسينية، نسبة  لـKelsen ‏ (النظرية الخالصة للقانون)، تعد البيعة عقداً، بل معيارا، بكل ما في ‏الكلمة من معنى، حيث تتبوأ قمة تراتبية المعايير (1) .

 ليس بإمكاننا تجنب هذا التصور الاجتهادي للدستور المكتوب، بل سيكون من الأدق القول بأن الدستور في المغرب يتضمن مستويين اثنين : الأول يستدعي قواعد العرف (بالمعنى القوي) للبيعة،كمنشئة لتعاقد مابين الأمة وأمير المؤمنين (الإمام الأعظم)، وهكذا فعقد البيعة في حد ذاته عبارة عن نص دستوري. أما الثاني فهو ما نعنيه بالدستور المكتوب (وهو حاليا دستور سنة 996 ‏1) (2) والذي يعد الفصل19 ‏ فيه العنصر الرابط الذي لا محيد عنه ما بين المستويين المذكورين.

‏وقد أدرك أحد كبار المختصين في علم السياسة، وهو ماكس فيبير، المعنى الواجب منحه لقداسة الملك المنصوص عليها دستورياً (الحرمة) مؤكداً قبل كل شيء على البعد "القانوني العقلاني" (3) والذي يؤثر في الواقع في البناء ء بكامله وفي توزيع السلط (التنفيذية والتشريعية والقضائية) التي لا يمكن تمثلها على شاكلة نموذج مونتسكيو بسبب السيادة المسلم ‏بها للإمام الأعظم (أمير المؤمنين).

 لذا تتبين لنا المكانة التي يحتلها الفصل 19 ‏ من الدستور في صلب البعد المعياري الذي تسمح به البيعة والمتضمن في الاعتراف للملك بوضع أمير المؤمنين.

الملك أمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة و رمز وحدتها وضامن دوام الدولة واستمرارها وهو حامي حمى الملة والدين والساهر علي احترام الدستور، وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات.وهو الضامن لاستقلال البلاد و حوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة.

 بغض النظر عن التغييرات الراجعة للإصلاحات والمراجعات العادية التي تطرأ باستمرار على هذا المقتضى أو ذاك من الدستور المكتوب. فإن مؤسسة البيعة ستظل قائمة لأنها تتجاوز في جوهرها بحد ذاته كل أدوات المقتضى الدستوري المكتوب والذي تحكمه دينامية التغيير بمفهوم الفقيه الفرنسي (ليون دوكي) Leon Duguit   في كتابه la transformation du droit  1904 .

  بهذا المعنى، فإنا بقرا،ة هذا الفصل19 ‏ نجد أنه يستعرض، وبترتيب مضبوط. وظائف الملك الإمام، وهذه الوظائف هي:

أ . وظيفة أمير المؤمنين بصفته الإمام الأعظم، وكون الإسلام الدين الرسمي للدولة (ديباجة الدستور);

ب. وظيفته بصفته « الممثل الأسمى للأمة» أي أن صفة تمثيله للأمة بأكملها منبثقة من البيعة;

‏ج. وظيفته بصفته رمز الوحدة الترابية للبلاد في كل أشكالها;

‏د . وظيفته بصفته ضامن دوام الدولة و استمرارها;

‏هـ. وظيفته بصفته حامي حمي الدين الإسلامي والساهر على احترام الدستور;

و. وظيفته بكونه هو الذي يصون حقوق و حريات المواطنين:

‏ز. وظيفته بصفته الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة.

 وهكذا فإن المهم في مسلسل الإنتاج المعياري (القانون)، هو أن التفويض الذي تمنحه البيعة للملك تتم استعادته من خلال الدور الدينامي الذي يقوم به الملك فيها ابتداء من التوجه المعياري والى نشر القوانين، وذلك عبر تقدير ما يمنحه من سلطات دستورية من جهة السلطة التشريعية و التنفيذية في إطار قيامه بالتحكيم.

 إن هذا يؤكد لنا مدى التوازن الموجود ما بين التقليد و الحداثة في المنظومة الدستورية المغربية التي تمنح للبيعة دورها المحوري، و يتأكد الأمر بصفة أوضح عند رجوعنا إلى القانون الدستوري المقارن حيث يتضح مدى براعة نظامنا الدستوري و ضرورة اعتبار البيعة إحدى مؤسسات القانون السياسي المغربي التي ستظل مركزية ووجيهة و دائم، كيفما كانت تغيرات القواعد الدستورية التي قد تخضع مستقبلا لمنطق المراجعات و الإصلاحات العادية في حياة الدساتير المكتوبة.…

البيعة في عرف أهل المغرب، صورتها وخصائصها

وأهل المغرب يأخذون بقاعدة البيعة الشرعية في تمليك ملوكهم. اقتداء، بما فعله الصحابة الكرام غداة وفاة رسول الله صلى الله علبه وسلم واختيارهم أبي بكر رضي الله عنه أول خليفة…

البيعة في القانون العام الإسلامي

تعتبر مؤسسة البيعة إحدى المكونات الأساسية في القانون العام المغربي سواء تعلق الآمر بالدولة التقليدية أو بالدولة القائمة في الوقت الحاضر .

فإذا كان من اليسير وضع البيعة في إطار الفكر…

البيعة في الفكر السياسي والفقه المغربي

لقد كانت طبيعة البيعة في صلب اهتمامات الفقهاء المغاربة، إلا أن الروابط الأكثر اعتبارا من اللازم وضعها في السياق الخاص الذي يتم فيه تولى الحكم والظروف الخاصة للخلافة . أما…

البيعة ضمن خطاطات القانون المقارن

من المفيد الرجوع إلى دساتير الديمقراطيات العصرية الأكثر تقدما وخاصة منها الأنظمة الملكية أو بعض الأنظمة الشبيهة لها ( كندا ) لإبراز إلى أي حد تندرج البيعة بمعناها الماوردي في…

البيعة في إطار القانون السياسي المعاصر

تعد مسألة تولية العرش في الحقيقة الفعل الذي تتولد عنه البيعة باعتباره أساس صحة هذه التولية من طرف الملك الجديد . لذا فقد أدخلت عليها بعض التعديلات مقارنة مع الماضي…

خصوصيات عقد البيعة في المغرب

يتميز عقد البيعة في المغرب بالعديد من الخصوصيات بالنظر لتلك التي توجد تاريخيا في الشرق الإسلامي . وتتمثل فيما يلي :

الخاصية الأولى : البيعة عقد مكتوب يكتسي صبغة تعاقد

-…

عقد البيعة يكتبه أهل الحل والعقد

من القوانين والأحكام الدستورية التي تميز بها المغاربة "عقد البيعة"، وهو بمثابة عقد يكتبه أولو الحل والعقد من الأمة عندما يتقلد ملك من الملوك منصب الإمامة العظمى..كان للمغرب في عصوره…

بيعة الملك محمد السادس

إثر وفاة صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله في الساعة الرابعة والنصف من عشية يوم الجمعة 23 يوليوز سنة 1999م -9 ربيع الثاني عام 1420هـ، نودي بابنه وولي عهده…أمير المؤمنين وقائد الأمة صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأعز آمره

ACHARIF